مُنتجو التطرّف

بقلم/الياس الزغبي

     

لا نقاش في أنّ التطرّف والغلو في التصرّف، صفة وطبع من صفات الانسان وطبائعه.

 

عبر الأجيال، كان هناك دائما متطرّفون يلجأون الى العنف الكلامي والمعنوي، ثمّ الجسدي، ضدّ خصومهم وأعدائهم، والتاريخ حافل بسجلاّت هؤلاء، وهم اليوم اكتسبوا، بلغة العصر، تسمية ارهابيّين.

 

ليس هنا مجال البحث في الارهاب وأصوله ودوافعه النفسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والدينيّة (المشوّهة)، بل للنظر في ظروف هذا العنف المتنامي وترجماته القاتلة في عمليّات التفجير بين منازل الأبرياء وعلى أبواب معابدهم وكنائسهم.

 

لم يبلغ العنف الطائفي والمذهبي في الشرق الأوسط، عبر مئات السنين، ما بلغه منذ ثلاثين عاما، وما يبلغه اليوم. ليس لأنّ أصوله ودوافعه تغيّرت، وطرأت "صحوة" للأصوليّين والجهاديّين، وانفتح الوعي التاريخي على عالمي الخير والشرّ، والفسطاطين، وداري الحرب والاسلام، بل لأنّ "ثورة اسلاميّة" تحوّلت الى جمهوريّة، وعقيدة سياسيّة – مذهبيّة شاءت أن تُصدّر نفسها، فأيقظت كلّ ركام التاريخ، وحرّكت هواجس الأقليّات والأكثريّات، وأطلقت في الأذهان أحلام القوّة والغلبة والتفوّق، ودغدغت مكامن العنف لدى المذاهب الأُخرى.

 

قبل هذه "الثورة"، لم تكن "القاعدة"، بانطلاقاتها الأفغانيّة والاخوانيّة، وظواهرها من باكستان الى المغرب، شديدة الخطورة كما هي الآن.

 

ولم تكن أسماء، مثل بن لادن والظواهري والزرقاوي والعبسي والعولقي ... ومن شابههم، تسطع في فنون القتل والتدمير شرقا وغربا، وضدّ المسلمين قبل سواهم، وضدّ المسيحيّين استطرادا. 

 

لقد استشرست "ثقافة" العنف تحت عنوان تصدير "ثورة الخميني"، وهي اليوم تزدهر تحت عنوان "الممانعة والمقاومة"، وتحت شعار "جبهة المواجهة العالميّة" و"جبهة مقاومة الشعوب".

 

ولنأخذ نماذج سريعة من هذا الازدهار:

 

- في باكستان وأفغانستان، انتعش الارهاب بعد الهزيمة، ولايران "فضل" في الحضانة والرعاية، الماليّة والتدريبيّة على الأقلّ.

 

- في ايران نفسها، لم تكن ظاهرة التفجيرات معروفة وحركة "جند الله" مكشوفة، قبل "الثورة". وردّ الفعل يكون غالبا من طبيعة الفعل نفسه، والتطرّف يستولد التطرّف.

- في العراق، كان تزايد التدخّل الايراني سببا عضويّا في تصاعد التفجيرات الارهابيّة ضدّ الشيعة والسنّة على السواء، وليس خافيا أنّ المسيحيّين في الجنوب الشيعي لم يكونوا أقلّ استهدافا منهم في الوسط السنّي. ولعلّ أسوأ مآسيهم حصلت تحت الحكم العراقي المائل نحو ايران منذ بضع سنوات. ولا ينفع هنا التبرير بوجود جيش أميركي، ورفع المسؤوليّة عن كاهل السلطة ذات الهوى الايراني.

 

- في الخليج، من اليمن الى البحرين والامارات والكويت، لم يسبق أن خيّم شبح الصراع المذهبي كما هو الآن، مع ايقاظ حساسيّات الأقليّات الشيعيّة وتحريك أحلامهم وانجذابهم الى الميتروبول في طهران، والميل الى العنف المعلوم والمكتوم.

 

- في فلسطين، لم تنشطر القضيّة الى نصفين، في السياسة والجغرافيا، الاّ بعد الدخول الايراني القوي بالمال والسلاح والعقيدة الى غزّة، وفيها لا تُحسد الأقلّيّة المسيحيّة على وضعها. رام الله ، باعتدالها ، أنتجت أوسلو ورابين. غزّة، بتطرّفها، أنتجت حروبا وشارون ونتانياهو وليبرمان.

 

- في مصر، ليس سرّا دور ايران في استدراج العنف، سواء من بوّابة غزّة أو في الداخل، و"خليّة حزب الله" ماثلة. فمن يستطيع أن يؤكّد أو ينفي أنّ استهداف المسيحيّين الأقباط ليس في سياق الصراع الكبير بين قُطبي الاسلام على جناحي الشرق الأوسط، وفي اطار حرب الفتنة الكبرى؟

 

- وأخيرا في لبنان، بات واضحا أنّ الاعتدال السنّي لا يخدم المشروع الايراني، فهناك اصرار على اضعاف الأكثريّة المعتدلة والواعية. فهل يفعل "حزب الله" غير ذلك بالتطرّف في الخطاب، والوعيد بالعقاب؟ فهو لا يتحالف الاّ مع أبناء جنسه من المتطرّفين والسلفيّين الجهاديّين، يضع خطا أحمر على معسكر "فتح الاسلام" ويضغط لاخراج عمر بكري الفستق من السجن، ويغفو على عمالة حلفائه، ويعمد على اثارة الفعل وردّ الفعل، على طريقة رعد – كبّارة، ويكلّف أصواتا مسيحيّة ودرزيّة وسنّيّة في حربه على اعتدال الحريري وعقلانيّة 14 آذار وسلميّة العرب وعلميّة الغرب.

 

- وهل العنف و"الوعد" بالفتنة في لبنان صنيعة المعتدلين من سنّة ومسيحيّين وشيعة ودروز، أم من صنع أدوات المشروع؟

 

والمثير للأسف، أن يخرج الحليف المحلّي الأوّل لـ"حزب الله" بنظريّة مضحكة تقول انّ تفاهم 6 شباط 2006 أوقف عنف الخامس منه!

 

وصاحب النظريّة هذه يعرف قبل سواه أنّ وراء عنف 5 شباط في الأشرفيّة أيدي حلفائه، وأنّ من أطفأه هو وعي القيادات المسيحيّة والسنّيّة في 14 آذار، وادراكها خطورة الاختراق المخابراتي الذي حصل.

 

ولا بدّ أنّه يعرف أيضا من أشعل عنف الاوتوسترادات والدواليب والاعتصامات واغتيال العائدين من تجمّع سلمي ومواطن مؤيّد له في عين الرمّانة، وصولا الى 7 أيّار وسجد ودورس واثارة حساسيّات الجامعات وجرود جبيل وطرابلس والبقاع الأوسط واقليم الخرّوب وصيدا.

 

ويعرف ويعرف أنّ تهجّمه على مصر والسعوديّة وزعامة الحريري ومواقع السنّة خدمة مدفوعة لـ"حزب الله" هنا، وسوريّا وايران هناك، ويشكّل حلقة في انتاج التطرّف، ويعرّض المسيحيّين تحت الشعار الخادع بانفتاحهم (على سوريّا وايران)، أي على 10% من البيئة الاسلاميّة فقط!

 

في كلّ عنف وتطرّف، هناك فعل وردّ فعل، بادئ ومكمّل، سابق ولاحق.

 

ومن السهل في لبنان، والشرق الأوسط، رصد مُطلقي العنف ومبرمجيّ أساليبه. 

 

"القاعدة" بيت بمنازل كثيرة، وعباءة يلطو تحتها كثيرون.

 

ومنتجو التطرّف والارهاب متعدّدو العناوين، مموّهو الوجوه

 

السبت 8 كانون الثاني 2011