ميقاتي والراعي

بقلم/الياس الزغبي

 

واضح جدّا أنّ الرئيس نجيب ميقاتي يحاول استغلال كلّ سانحة لكسب عطف سنّي، وترميم شيء من شعبيّة مهتزّة منذ 9 أشهر.

 

حتّى أنّه لم يتردّد في توظيف لقائه مع البطريرك الراعي، فتحدّث قبل اللقاء وبعده عن دور السنّة في لبنان والمنطقة، بعدما قدّم نفسه مدافعا عن المحكمة وتمويلها، وعن المواقع السنيّة في الادارة وشاغليها.

 

ولكنّ اللافت في تصريحه في الديمان، اشادته بحكمة الراعي و"عدم تراجعه.. لأنّ مواقفه ليست وليدة الساعة، بل نتيجة حكمته".

 

لم يشرح لنا الميقاتي أسباب اقتناعه بحكمة البطريرك، الاّ اذا كان ما سمعه منه يناقض ما قاله في باريس عن خطر تحالف سنّة سوريّا مع سنّة لبنان والمصير الأسود للمسيحيّين، أو اذا كان مقتنعا، مثل الراعي، بحلول نظام أصولي مكان نظام الأسد، ما يوجب الاصطفاف وراء هذا النظام، على علّته، لانقاذه!

 

والمفارقة أن يرى حكمة عند سواه، افتقدها هو نفسه، حين انتسب الى محور في مرحلة هبوطه.

 

فبعد تسعة أشهر على انخراط الميقاتي في الانقلاب الذي قرّره محور الأسد – "حزب الله"، لم يلمس اللبنانيّون مدى الحكمة في موقفه، ومدى اثبات التطوّرات صحّة انتسابه الى حالة سياسيّة مرتجّة، تنازع في مراحلها الأخيرة، قبل السقوط. والأمر نفسه ينطبق على الراعي الباحث عن فرصة لنظام أهدر كلّ الفرص، وقد حسم الشعب السوريّ أمره قبل أن يحسمه العرب والغرب.

 

اذا، لا يصحّ الأخذ بـ"حكمة" الرجلين ورهانهما من خارج سياق التطوّر الموضوعي للأمور، وحين تكون قراءتهما للحالة العربيّة الحديثة بعيدة عن دوافعها واتجاهاتها الصحيحة والعميقة.

 

لا عيب في وقوع أيّ مرجعيّة، سياسيّة أو روحيّة، في خطأ التقدير والقراءة. لكنّ العيب يكمن في ادّعاء المعرفة المطلقة، وفي تحويل الهواجس الى حقائق، وفي الاصغاء لمشورات أحاديّة الرؤية، محدودة الأفق، ومريبة الطوايا.

 

ولعلّنا نتلمّس بدايات تدارك الانزلاق الى الخطأ الأكبر، وربّما الخطيئة، حين نعاين محاولات تصويب وترشيد. فالرئيس ميقاتي يُلزم نفسه بالمحكمة وتمويلها، فيزداد وليّ حكومته حنقا وريبة، ولا نعرف من هم "الغالبون": هل يتراجع ميقاتي بمبرّرات من قاموسه، فيُعيد نبش عبارتَي "احترام" و"مبدئيّا"، أم يعضّ "حزب الله" على هزيمته ويبلع الموسى، فتكون بداية سقوط "امبراطوريّته

 

ولا حساب هنا للموقف المزايد في رفض تمويل المحكمة، الصادر عن ميشال عون، لأنّه على هامش الصراع الحقيقي. والضعفاء يضيعون عادة بين سنابك الخيل، وفي غبار المعركة. أقصى طموحهم أن يستدرجوا ردودا من مسؤوليّ طائفة أخرى كي يقتنصوا المكاسب بنعمة السجال الطائفي.

 

أمّا البطريرك الراعي، فهو يجهد، في السرّ والعلن، لاعادة تقويم نتائج العاصفة، في شروحات وتفسيرات مباشرة أو عبر موفدين. والكلمة الفصل ستكون في مجلس المطارنة الموارنة، وفي الترشيد الحاصل بين الكنيسة والقيادات السياسيّة والانتلجنسيا المسيحيّة والفاتيكان وباريس.

 

وبات من الملحّ والضروري، ادراك عمق الضرر الذي يسبّبه التوظيف الفاقع لمواقف الراعي التي أطلقها  من باريس: نظام بشّار الأسد لا يكفّ عن الحفر في الجرح والتهليل لبطريرك الممانعة، و"حزب الله" لا يتورّع عن المبالغة في التكريم والترحيب ودقّ الأسافين، بينما أغرار مسيحيّي "8 آذار" يغرقون في شبر ماء، متوهّمين أنّهم يسبحون في المحيط، وحارس المسبح سيُنقذهم وهو غريق!

 

على الأقلّ، وحفظا للتوازن، يجب أن تتنبّه بكركي لخطورة هذا الاستغلال، وتضع حدّا حاسما له، أسوة بوصفها مناقشيّ مواقفها وناقديها أنّهم "سطحيّون"، وأنّ وسائل الاعلام "اجتزائيّة".

 

فأيّ وصف يستحقّ الراقصون على أبواب بكركي " بأشدّ ممّا ينفخ الزمّارُ"؟!

 

بين الميقاتي والراعي أكثر من شبه في الحيثيّة و"الحكمة"، مع الأمل في ألاّ يتشابه موقعهما "الأقلّوي" ضمن طائفتيهما، ولكن مع فارق أساسي بينهما: الأوّل يستقوي بطائفته ليضمن مستقبله، والثاني يعتقد أنّه يقوّي طائفته بمواقفه الجديدة، ويُحصّنها أمام مدّ أصولي مفترض.. ولكنّه لن يأتي أبدا.

 

وليس هناك ما هو أسوأ على المسيحيّين من نظام خوّفهم ليحميهم، واستدرجهم ليقتلهم، ووظّفهم في حروبه الصغيرة والكبيرة، وقلّص عددهم في سوريّا ولبنان الى أقلّ من النصف، على مدى 40 عاما.

 

لكن، هل يكفي الاعتقاد؟ أو توجيه "الحكمة" في اتجاه واحد؟

 

الجواب لم يأت فقط من موارنة لبنان ومسيحيّيه، بل من مسيحيّي سوريّا أنفسهم.

 

فلنقرأ جميعا بيان الناشطين المسيحيّين السوريّين، ولنُصغ الى كلام ألبير كيلو وسواه من العقلاء، فأهل البيت أدرى بما فيه، وليست المرجعيّات الدينيّة دائما على حقّ، وغالبا ما تكون الأولويّة لصلاتها بالنظام.

 

فنبض الناس ووجدانهم ليسا ملكا لمن هم فوق.

 

لقد كنّا صنّاع الربيع العربي الأوّل في القرن التاسع عشر. وعار علينا ألاّ نكون في صلب الربيع الثاني في القرن الـ21.

 

التخبّط والخوف والانكفاء وطلب حماية الأنظمة القاتلة، ليست قدر المسيحيّين، ولا تمتّ الى رسالتهم بصلة. نظريّة الأقليّات سقطت في الدول المتقدّمة، وسيُسقطها أحرار العرب في رحاب الدولة المدنيّة.

 

ورعب "الأقليّات" ليس سوى صناعة الهامشيّين.

 

الاحد 18 أيلول 2011