عون.. من المستور الى المنظور 
الياس الزغبي


وأمّا بعد. ومع انكشاف سيرة هذا الرجل، بالمعروف منها والمجهول، في شهادات بعض عارفيه ومجايليه، وما تطويه، الى الآن، الحقائق والوقائع المذهلة في أدائه وأهدافه وألعابه ومغامراته، يمكن تكوين خلاصات ثابتة عن شخصه ودوره، ودورانه حول ذاته. منذ أكثر من ربع قرن، الرجل هو نفسه. نظلمه اذا وزّعناه بين بعبدا وباريس والرابية، واذا ميّزنا بين "شخصيّاته" الثلاث. هو واحد أحد، لا قبله ولا بعده، ولو استمات في إنتاج وريث لن يرث سوى قبض ريح سرعان ما يتبدّد مع اكتمال هبوب عواصف التغيير في لبنان والعالم العربي. كلّ ما طرأ على حقيقته هو انتقالها من العتمة الى الضوء، من السرّ الى العلن، من المستور الى المنظور.
ثابتتان لا تقبلان الجدل في حالة ميشال عون:
- ثابتة ارتباطه المزمن بالنظام السوري، من الأب الى الابن... الى نهاية اللعبة.
- ثابتة هوسه الممضّ بالسلطة وبعصبها الأوّل: المال.
حالتان متداخلتان، واحدة تبرّر الأخرى وتجسّدها. فالقاعدة هي متانة الارتباط باستراتيجيّة النظام وغاياته القصوى في استتباع لبنان واستلحاقه، والاستثناء هو النزق في التصدّي له ومحاربته، كما في ما سمّي "حرب تحرير" 1989، و"قانون محاسبة سوريّا" 2003.
التصدّي جزء من الالتحاق وغطاء له. والدليل هو أنّ طفرات عون ضدّ نظام آل الأسد متّنت الاحتلال السوري ووسّعت دائرته، وهذا ما حصل في 13 تشرين الأوّل 1990.
لا شكّ في أنّ براعة موصوفة لدى المخابرات السوريّة مكّنتها من استثمار نزوات عون في السلب والايجاب. عزّزت سرّاً جموحه الى الكرسي الأولى. سهرت على تسمين شعبيّته خلال مرحلة منفاه "المخملي" وفي المرحلة الأولى للعودة، على قاعدة تسمين الذبائح لأيّام المرافع. كان لها دور واضح في 7 آب 2001، وفي اشكاليّة فرعيّة المتن 2002، وفي فرعيّة بعبدا 2003 دعماً لمرشّحه، وفي انتخابات 2005 وما بعدها، وبات واضحاً أين هي اليوم الخواريف المسمّنة، بكتلتي نوّابه ووزرائه، وبما لا يزال يتيسّر من شعبيّة مخدوعة. وقد ساهمنا جميعاً، ومن حيث لا ندري، في الخطّة السوريّة الابليسيّة لتسمينه، مأخوذين بسحر الثالوث الوطني المقدّس: حريّة، سيادة، استقلال!
لقد تبيّن بالملموس أنّ حالة عون لا علاقة لها بهذا الثالوث السحري. وموقفه اليوم من الخرق السوري للسيادة والاستقلال، وخرق سلاح "حزب الله" للحريّة وقيام الدولة والعدالة تحت خدعة "التفاهم"، أسطع دليل.
أمّا الولع الضرير بثنائيّة السلطة والمال، فحلّلَ له كلّ المحرّمات: من " ثقافة " قطع الطرق، الى وضع "الأمور في نصابها" بقوّة السلاح الحزبي، الى تحريك الخناجر في جروح الحرب، الى نبش قبور الشهداء، الى توظيف الاعلام "الغوبلزي" في تشويه الحقائق وضخّ السموم وتفخيخ الأذهان.
لم يحدث أن حصل هذا الانهدام العمودي في العائلة والمجتمع الاّ منذ تمّ تكليفه بالمهمّة غير النبيلة في نسف القيم اللبنانيّة بدءاً بالركائز الخمس الكبرى للحضور المسيحي والأسس المبدئيّة لبناء الدولة، وصولاً الى الانحطاط المخجل في الخطاب السياسي، الذي لم يعرفه أبدا التاريخ المشرّف للزعامات المسيحيّة.
برع ميشال عون في تطبيق قاعدته الذهبيّة: جمع المسيحيّين حول شعارات صحيحة، وجرّهم الى التزامات خاطئة، بل قاتلة.
هكذا فعل سنة 1989 في "حرب التحرير"، وأخذ المسيحيّين بعد أشهر الى حرب داخليّة مدمّرة.
هكذا فعل سنة 2005، وورّطهم في "تحالف أقليّات"، جرّبوه قبلاً مرّتين ودفعوا ثمنه باهظاً.
وهكذا يفعل اليوم، يوهم من بقي معه بخيار دعم نظام الأسد تحت وهم الحماية، ويقودهم حتماً الى انكسار جديد، ولم يتجرّأ أحد من أنصاره على تنبيهه الى أنّ مسيحيّي سوريّا ولبنان كانوا أقوى وأكثر وأعزّ قبل 40 عاما من ولاية النظام الذي يعشق.
وفي الداخل، يُعمي أبصار مؤيّديه عن القضم الخطير الذي يقوم به "حزب الله" في القمم المسيحيّة، من لاسا وأفقا الى ترشيش وضاحية الضاحية والنبطيّة وأقصى الجنوب، وقد فرغت الأطراف من مسيحيّيها أو كادت، وهو يتعبّد لصنم "التفاهم"، لعلّه يُنقذ حلماً ضائعاً.
ويبقى حلم التوريث. الأكيد أنّ عزاء ما، يخفّف من وطأة احباطاته في بلوغ كرسي القمّة. فاذا لم يحقّق ما اشتهى في حياته، فليحقّقه بعد مماته. ومن أجل هذه الغاية المكتومة المعلومة، يهون كلّ شيء: يُبقي على "التيّار" حالة فضفاضة، لا أجسام سياسيّة فيها ولا آليّات انتخاب ومحاسبة، لا حزب ولا ديمقراطيّة، بل بطانة منتفعين وجماهير "غفورة" للتصفيق، ومحظوظون في غفلة من الجدارة والعطاء والتمرّس. حالة هيولانيّة يجوز فيها كلّ بطل وعطل!
انّها سيرة رجل تنتهي معه. التاريخ لا يسجّل الطفرات الطارئة الاّ للتندّر. أمّا ما ينفع الأجيال فيمكث في الذاكرة وسجلاّت الكبار، وهذه السيرة ليست من هذه القماشة.
لقد حصد كتلة نيابيّة كبيرة على بريق برنامج سمّاه "الطريق الآخر". فقلنا في السرّ والعلن: بل هو "الطريق... الى الآخرة".

25 تشرين الأول/11